متى يسحب اللبنانيون غضبهم ووسائلها المتنوعة في وجه حفنة من الطغاة الذين عاثوا في لبنان حروباً وسلماً أقسى من الحروب بسرقاتهم وأكاذيبهم وتدميرهم لكلّ ما لاح أمام أعينهم وطموخاتهم ونهمهم القاتل لتكديس المال المسروق في بنوك العالم؟
لا يمكنني نسيان صورة رجال الأمن والبوليس يهرولون ويختبأون كما الفئران أمام جماهيرالناس المتظاهرين في اليونان يكسّرون ما طالت أيديهم من أكاذيب الصور الملونة والأبراج المحشوة بالسارقين صارخين بحكامهم وطغاتهم: يا أبناء الأفاعي.
يصعب رصد المستويات الهائلة التي بلغها عصر الفضاء المفتوح على جذب الناس واللبانيين تحديداً إلى الغرائز والإشاعات وثقافة التدمير والإنهيار وإقناعهم وحتّى إخضاعهم وقولبتهم وتسطيحهم على السادية والتلذّذ بالإنهيار حتّى أنّني يمكن أن أعيد فشل لبنان الحالي إلى دعس المسؤولية إلى درجة إعلان التحرّر حتّى من هذه الحريّة السخيفة الكاذبة في القول والفعل.
نحن نعيش في عالمٍ من الصور الملوّنة الجميلة والقاتمة والأرقام والنسب والإستراتيجيات الإعلامية والعلائقية المتناقضة المطعّمة بالعلوم النفس إجتماعية وأجيال الخبراء والمستشارين الذين لا يتجاوز ثمنهم القروش في قيمهم ووطنيتهم أحياناً، ويتسابقون في الإستلقاء والعيش أمام اسيادهم يبتهلون لبسمة أو مغلّف ويصدقون أنهم مستلقون فوق وسادات تحقيق المعاصرة أو الموضة أو الحماية والقوة أو بيع الكذبة بفرنكين والوطن مهما كان ثمنه ولو كان تجاوز الواقع مستحيلاً. يا الله عندما تصبح الأنا قبل الوطن. تشبه المصيبة عندنا شمساً نزلت إلينا تحرقنا ولا تغيب تخطف الناس نحو الصفوف الأولى وتقديس التعذيب الذي لا يفرّق الأنوثة عن الذكورة كثيراً بل يفرغ وطننا من المضامين الإنسانية وحتى الحيوانية في إستقرارها ، فيخلد إلى كتابة النكات والسخافات المجوّفة التي لاتعلق آثارها في الذاكرة أو الثقافة. الإنبهار بالآخر وبالخراب واللحاق به ظاهرة لبنانية بشرية تحقّق نتائج مضمونة "لأسلحة" الألفية الحديثة الطاغية في تحفيز البشرية نحو الإستهلاك والإستهلاك والإرتماء كما الكلاب الجائعة دوماً على أعتاب الزعماء. كلاب عارية وكلاب لم يجزّ صوفها مذ كانت.
كانت المطبوعة الحاملة الأول للمرسلة الاعلانية في مساحات ورقية تشتري الإنتباه البصري، ومع ظهور الراديو بوشر بشراء الزمان والآذان. كان الإعلان يبيع صوراً كاذبة أو موسيقى من دون صور وتحت سلطات الرقابة. وتدفّقت البرمجة الحديثة تقولب المحيط بما يتناسب والحاجات في تمويل أوخلق المسرحيات والبرامج والافلام، وبثّ المنوعات والمسلسلات البوليسية ووسائل النقل واللهو والسياحة والطرقات السريعة والشوارع الضيقة والفضاءات الخاصة بالمدن والقرى والفضاء بالإعلانات الكاذبة سياسية بمعظمها أو حاجيات. تمكّن المعلنون من تحويل "المنازل" إلى مؤسّسات صامتة منهارة محشوة بالرغبات الممكنة والمستحيلة المقيمة كما الأسرار التي لا يمكن تحقيقها بشكلٍ كامل لكنهم يغذونها ويتسلّطون عليها. هكذا كانت السلطة الكبرى للإعلان/الإعلام في الإذاعة والتلفزيون تلاقي منافسة محدودة بسبب البرامج الحرّة والمواقع الطليقة التي راح يرفعها الناس ويلهثون خلفها على الانترنت ومشتقاته وأجياله المتحكمة بالحواس. يرعى الاعلان/الإعلام المجتمعات اليوم إذاً بدلاً من السياسة والسلطات كأجهزة مرذولة لدى الرأي العام لكنها واقعيّة ومتسلّطة وساقطة في الفخ وربّما في الثورة بين قوسين بما يستعيد أساليبها الدموية عبر التواريخ القريبة الماضية.
وإذا لم تتمكن شركات التخدير والاعلان المحلية والسياسية العالمية اليوم من رعاية مجمل برامج الشاشات التي لا ترى النور أساساً من دون سلطاتها التاريخيّة والماليّة المعروفة ، فإنّ الشركات تكثّف جهودها بما يجعلها أمينةً على أصنافها و"إخضاعها" للأذواق والاستمرارية في وظيفة الاعلام التي تشغل المجتمعات الجامدة أكثر في الأساس. إن الخطر حقيقي، لأنّ البرامج، ربّما، تركز أكثر على المضامين التي أصبحت حرّة أكثر بكثير. ويقدم المنتجون الجدد لمواد الاعلام كلّ ما يرغب به المستهلك المسكين من البرامج في الشائعات والتضخيم والتبخيس والتحقير بالمواصفات والأسعار التي تناسبه. وتأخذ أثمان الانترنت وتكلفته وأوقاته مكان عوائد الاعلان والجراح والفقر حتى ولو ملأنا بريدك الإلكتروني أو دماغك المريض بالمعلومات الاعلانية المتناقضة المشحونة بالتخويف . يبقى السؤآل: تخاف من السجن أو من الموت وأنت نقيم في السجن والمقابر ويذوب كلامك وجسدك وأعصابك وأطفالك أمامك مثل غيوم الصيف المطروشة بالقهر والدماء؟.
لا أصدّق أنّ لبنان الذي لوى العنق العثماني هو مساحة راقصة بلا شعب حتى الآن.
تتحوّل شاشة الانترنت عندنا فعليّاً إلى لوحة أرضيّة أو يافطة عالميّة للمؤسّسات الكبرى التي تتجاوز الدول، من خلال المعلومات المحكومة بالاعلانات فيفرض
الاقتصاد توظيف اللغات والبرامج وطرائق الاعلام، بما يدفع بالمعلنين إلى الجمهور العام القاعد أمام الأسواق المعصورة ينفّس بالصور والجمل السخيفة واللايكات وعروض الأزياء والمفاتن والفحش، وذلك كلّه بهدف بيع المعلومات "المقشرة" الجاهزة، وفتح الأبواب مجدداً أمام شركات الاعلان فتتحوّل الانترنت والأوطان سوقاً عالمياً تضيع فيه أعداد المشتركين والمبحرين ومواقعهم ولغاتهم، و"تموت" الاحصاءات والنسب التي تخضع لها اللغة الاعلانية، كما كان يخضع لها الخطاب السياسي والاجتماعي والجامعي والحقوقي والقضائي والديني، ويفقد لبنان وغيره قيمته إن لم يقدم لغة مزودة بالأرقام.
ليست مراقبة الأذهان، واستبدادية الأرقام وتطويع البشر عن طريق الاعلانات والاحصاءات والتسويق سوى إيديولوجيّات الأمس السائدة، لكنّها الآيلة إلى الأفول. لا تضيع أعداد المبحرين ومواقعهم ، بل تضيع قسماتهم ورغباتهم، من دون معرفة جنسيّاتهم. وتسقط الأفكار الكثيرة التي كانت تساهم في التسلّط على قناعات البشر فتثبت زعامتهم وكنائسهم ومنتدياتهم وجوامعهم وحسينياتهم وجمعياتهم وسرقات سياسييهم وأكاذيبهم وأمراضهم ، فلا نعود نعرف مخاطبتهم وقد نخطئ في "إصاباتهم". والسبب قائم بالطبع في هذه الهوة الكبيرة القائمة بين الاعلان والثقافات وبين السياسيين والناس الذين يبيعون ويشترون ويأكلون ويشربون ويتذمرون مخالفين لروح العصر والإنسان ولروح الله الذي به يؤمنون. ليس هناك ما يؤكد إذا كان المشاهدون/المواطنون يستنتجون شيئاً من هذا الدفق المتنوع السريع للإنهيار على المستويات كلّها أو يستفيدون منه.
لن أكمل هذا النص الذي قصدته بصياغته المشتّتة على شاكلة اللبنانيين العاصين عن الفهم والحركة والرفض والتظاهر والإنقطاع عن كلّ ما حولهم وبكلّ المعاني.
أكرّر: البلد الوحيد الذي رأيت البوليس يركض فيه أمام المتظاهرين، كان بالصدفة في أثينا ، عندما فارت النفوس بالغضب والجيوب بالطفر وبات كلّ شيء قابل للتكسير حتّى الرؤوس الكبيرة التي لا ولن يحميها نبي أو إله.